في معان

وددت لو امتلكت وقتاً وأنا في محافظة معان لأكتب من هناك عما رأيته، وعن الناس الذين تعرفت عليهم في غضون الساعات الأربعة التي أمضيتها مترجما لخبيرة أجنبية مختصة بشؤون المرأة والتمكين السياسي والاقتصادي لها. كان قبولي لهذه المهمة محفوفاً بكثير من التردد، فالمسافة بعيدة، وأنا قد أسافر بعد يومين أو ثلاثة، وهناك العديد من الأمور التي علي إنجازها قبل السفر، إلا أنني قبلت العرض، واستيقظت في الساعة السادسة صباح اليوم، بدأته بحمام ساخن وكاسة من العصير، ثم توجهت إلى النقطة التي سألتقي بها مع الوفد لنذهب سوية في سيارة كبيرة.

وصلنا إلى معان الساعة الحادية عشر صباحاً، وكان في استقبالنا مدير مركز الأميرة بسمة للتنمية، الدكتور غازي المغربي، وهو رجل بشوش متواضع كريم، فتحدثنا قليلاً معه، وقمت بما يجب فعله من الترجمة للخبيرة الأجنبية، وأوجز لنا طبيعة النشاطات والخدمات في المركز، خاصة ما ارتبط منها بعنصر المرأة والمجتمع النسوي في معان وقراها.

ثم انتقلنا إلى القاعة الكبيرة، حيث كان بانتظارنا 25 فتاة وامرأة من معان، وهن من المشاركات في برنامج لتمكين المرأة في مجتمع معان المحلي، فتعرفنا عليهن، وقصت كل واحدة منهن جزءا من حكايتها في هذا المجال، فجاء معظم ما قالوه مكرراً، كل واحدة تختصر أمراً أو تزيد على كلام  سابقتها، إلا ما كان من شأن فتاتين أثارتا إعجابي بكل المقاييس، كما أثارتا في الوقت ذاته كثيراً من الحزن على حال الفتاة في هذا المجتمع.

إحداهما تستخدم العربية الفصيحة بكل ثقة وتمكن، وتتحدث عن طبيعة المجتمع القروي الذي تعيش فيه، وكيف أن كل شيء بات محرماً عليها بسبب ثقافة العيب السائدة هناك، وكيف أن مجرد مشاركتها في هذا البرنامج كان في البداية جريمة في نظر أهلها عاد عليها بكثير من المشاكل ووضع عليها كثيراً من الضغط. إلا أنها بذكائها تمكنت من إقناع الأهل في نهاية المطاف بطبيعة هذا البرنامج وطبيعة الأشخاص الذين تختلط معهم أثناء التدريب. كانت تتكلم بكل ألم وحرقة، ومع أنه يبدو عليها الفقر إلا أنها كانت تتكلم وكأنها تملك الدنيا بيمينها، فتقول إنها ستتابع العمل في هذه البرامج التدريبية وغيرها من ورش العمل، حتى تتمكن من العودة إلى قريتها قوية قادرة أن تقوم بدورها في تنمية مجتمعها وتعزيز الوعي بين بنات القرية ليعرفن حقوقهن وواجباتهن، وأن يعرف العالم أن المرأة في هذا الجزء المغمور من العالم لها الحق في أن تحيا حرة كريمة.

أما الفتاة الثانية، فمنذ أن بدأت تتكلم أدركت أنها تحمل بين جنباتها قلباً علمته قسوة الحياة أن الأمل هو الدواء، وأن العمل والجهد والتواصل مع الآخرين هو الذي سيحدث التغيير في نفسها ونفوس الآخرين. كانت تقف وتتكلم عن أنها لم تنل التعليم الذي تريده وترغب به، وأن المجتمع لا يسمح لها أن تذهب إلى جامعة بعيدة، ولا أن تدرس تخصصات قد تعرضها للاختلاط مع الجنس الآخر. تكلمت عن أنها كانت تجهل مفاهيم أساسية في الحياة، كالحرية والكرامة وحقوق الإنسان والسياسة والمشاركة في المجتمع والتمكين، وقالت إن الجهل الذي تعيشه المرأة في هذا المجتمع هو جهل ذاتي وجهل مفروض عليها من المجتمع. وقالت كذلك إن ذكر المرأة في مجتمعنا يتبعه دوما علامة استفهام، فالمرأة سؤال مستهجن، والمرأة مثار للسخرية. كانت كزميلتها، تسطع إصراراً وتتألق ثقة .

المقدمة الكبرى التي سمعتها من كثير من هؤلاء الفتيات والنساء هو أن الله تعالى منح المرأة حقوقها وكرمها وجعلها على قدم المساواة مع الرجل وأن الإسلام يزخر بالأمثلة التي تظهر قيمة المرأة وأهميتها. ولكني شعرت في الوقت ذاته أن هذه مقدمة لا غنى عنها إن أراد هؤلاء النسوة أن يطرحن موضوع المرأة وقضية مشاركتها السياسية والاقتصادية أمام مجتمع ذكوري متزمت في مجمله كمعان. لذلك كان من أوائل الأنشطة التي تمت في المركز هو الاجتماع مع عدد من الشيوخ والواعظين في معان ليكسبوا ثقتهم ولينقلوا صوتهم إلى المنابر كيما يقتنع الرجال أن الدين يحث على تكريم المرأة ومنحها حقوقها كاملة كالرجل. لا شك أنني أؤمن بأن الإسلام أكرم المرأة، ولكن الأمر لا يختزل بهذه البساطة، وتبقى قضية تفسير النص الديني والتطبيق على أرض الواقع مليئة بالإشكاليات والتعقيدات، في الماضي والحاضر، وسيستمر الأمر كذلك في المستقبل.

حاولت أن أتواصل مع بعض الفتيات هناك، إذ شعرت بواجب عظيم تجاه هذه الفئة من المجتمع، وشعرت بمدى التقصير والتفكك الذي نعيشه في مجتمعنا الأردني. لقد كانت هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها هذه المحافظة، فلا أنا أعرف عنهم شيئاً ولا هم كذلك يعرفون كثيراً عن طبيعة حياتنا في عمّان.

كانت تجربة ممتازة، مع أن المسافة كانت طويلة، ومع طول قامتي تزداد آلام الظهر، ومع طول تفكيري بأمر الفتاة في معان تزداد آلام الرأس.

انتهت الزيارة بصدرين من الكبسة المعانية، تناولنا الغداء وقفلنا راجعين.