بوتين في سوريا. أنسحاب وخطاب نصر؟

نشرت هذه المقالة المترجمة في ألترا صوت
http://goo.gl/HCPD3t

قامت روسيا في أيلول الماضي بإرسال عشرات من طائراتها الحربية لإنقاذ ما تبقى من نظام بشّار الأسد وذلك في محاولة من فلاديمير بوتين لحماية الزمرة الصغيرة من حلفاء موسكو ولتأمين مزيد من النفوذ للدور الروسي في أي مباحثات سلام تتعلق بالحرب الأهلية القائمة في سوريا. وقد عمدت وسائل الإعلام الروسية إلى تصوير الحملة العسكرية هذه على أنّها مهمّة بطولية لإنقاذ العالم المتحضّر من الإرهاب الإسلامي. أمّا واشنطن فقد رأت أنّ بوتين في مساعيه هذه يخطو خطوة في الظلام. ولعل هذا حسب مقال ظهر في الإكُنومِست ما يتفقُ عليه المعنيّون بالشّأن السوريّ في أمريكا، ويرى الكاتب أنّه إن كان ثمّة اتفاق بين هؤلاء بشأن الحملة الروسية، والتي لم تساعد قوات الأسد إلا في إحراز القليل من التقدّم، فإنهم متفقون على أنّ هذه الحملة ستؤول إلى الفشل، ولذا فإنّهم يحثّون روسيا على التخلّي عن هذا الحليف. ويضيف المقال: “سيوفّر هذا لو حصل دعمًا كبيرًا لجهود مباحثات السلام برعاية الأمم المتحدة والتي يسعى جون كيري إلى تحريكها بهدف إنهاء حكم الأسد والترتيب لحكومة انتقاليّة تحكم البلاد في غضون سنة.”

ولكن هل ستكون خسارة بوتين في سوريا أمرًا مأمون العواقب؟ قد يكون من المثير أن يتشفّى البعض بتورّط الرئيس الروسي ببعض المتاعب هناك، إلا أنّه يحسن بالمتابعين للشأن السوري من صنّاع القرار أن يعيدوا النظر في افتراضهم أنّ تعثّر بوتين عسكريًا في سوريا ستعقبه بالضرورة حالة من السلام.

ليس من المستبعد أن يفشل التدخل العسكري الروسي في سوريا. ففي الأسابيع القليلة الماضية لم تحقق قوات الأسد سوى بعض المكاسب المحدودة حول مدينة حلب، كما أن وضع دمشق مهدّد من الناحية الإستراتيجية. أمّا في السنة الماضية فقد تعرض النظام السوري إلى سلسلة من الهزائم، كما أنّ الأسد قد أقرّ علنًا بحالة الإرهاق وضعف الموارد البشرية في جيشه، علمًا بأنّ النظام قد انسحب إلى بعض المناطق التي يسهل الدفاع عنها كما أنّه يسيطر على الخطّ الساحلي الذي يمثّل قرابة سدس البلاد وحسب. ومن المعروف أنّ المقاتلات الروسية ليست كافية لتحقيق النصر، وسيلزم الروس إرسال عشرات الآلاف من الجنود للسيطرة على مدن مثل حلب والرقّة.

تقف روسيا الآن على مفترق طرق حادّ، فهي في حالة من العزلة على المستوى الدوليّ كما أنّها تعاني داخليًا من اضطراب اقتصادي كبير، ويبدو أنّ بوتين قد أوغل في المجهول، خاصّة أن موسكو لا تتمتع بالخبرة لتنسيق عمليات عسكرية مع سوريا وإيران وحزب الله. يعدّ هذا التدخّل الروسيّ الأول من نوعه خارج نطاق نفوذ موسكو التقليدي منذ الحرب الباردة، كما أنّ بوتين قد علّق الكثير من الآمال على ديكتاتور لا يتمتع بالكفاءة، فالأسد بما اعتمده من سياسات للتعذيب الممنهج وما قام به من قصف للمدنيين بالبراميل المتفجرة لم يفلح إلا في إذكاء جذوة الحرب في البلاد.

يشترك في هذه الحرب بالوكالة طرفان آخران. فالداعمون للثوار السوريين مثل تركيا ودول الخليج قد يسعون لإفشال التدخل الروسي عبر زيادة مستوى الدعم العسكري للثوار وتزويدهم مثلًا بصواريخ مضادّة للصواريخ. ولعله يجدر بنا أن نذكر هنا كيف انتهت حملة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان في الثمانينات حين قامت وكالة الاستخبارات الأمريكية بتزويد المقاتلين بصواريخ أرض جوّ من طراز ستنغر.

ولفهم ما ينتظر بوتين في هذه الحرب يلزمنا النظر إلى تجربة إيران في سوريا. فحين اختارت طهران في بداية الأمر تقديم الدعم للأسد، فإنّها لم تكن تدرك ربما أنّ سوريا ستصبح مستنقعًا دمويًا سيكلفها سقوط المئات من جنودها مع خسارة عشرات المليارات. كما يمكننا النظر إلى ما تعرّض لها حزب الله الذي يقاتل بالوكالة عن إيران في سوريا، والذي وضع قواته على الحدود مع سوريا لحماية الأسد ويقدّر عدد القتلى في صفوفه بين 1200 و 1700 وما يزال حزب الله عالقًا في هذا المستنقع.

فالاحتمال إذن كبير بفشل التدخّل العسكريّ الروسيّ، ولكن هل سيكون ذلك لو حصل كافيًا لدفع بوتين لتقديم تنازلات والتخلي عن حليفه الأسد؟ لو افترضنا تحلي الرئيس الروسي بالحكمة فسنتوقّع منه أن يحدّ من خسائره قدر الإمكان، ولكن قد يكون هذا مستبعدًا. أثناء إعدادي لكتابي “الطريقة السليمة لخسارة الحرب” فاجأني ذلك القدر من عدم كفاءة الحكومات في التأقلم مع الخسارة في الميدان. والأمثلة على هذا كثيرة ومعروفة، من الولايات المتحدة في فيتنام إلى الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، إذ عادة ما كانت ردّة فعل القادة تجاه الكوارث العسكرية تتجسد في قرارات تزيد من خسارتهم. وبدل أن يبحثوا عن السبل الأقل كلفة للخروج من المأزق تراهم يتخبّطون أمام انحسار نفوذهم.

الخسارة صعبة على الجميع، بل ويعدّ الذعر من الخسارة حالة مرَضيّة معروفة عند علماء النفس، فإن كان الفوز يحقق الرضا بكيل واحد، فإنّ الخسارة تؤذي وتجرح بكيلين، سواء كانت الخسارة في لعبة ورقٍ أو في حرب. إن خسارة شيء مهما صغر قد تبدو غير محتملة للبعض، وكثيرًا ما يضاعف المرء خسائره في محاولة أخرى للفوز، ولنا في المقامر أوضح مثال، فالمقامر لا يغادر الكازينو حين يخسر مرّة، بل يضاعف رهانه في كثير من الأحيان. وكذا الرئيس الذي يخسر ألفًا من الجنود في فيتنام، فإنّه لا يعلن الهزيمة في الحرب، بل يرسل نصف مليون آخرين ويلقي بهم في أتون المعركة.

قد يكون من الصعب تخيّل بوتين يقبل بالخسارة، خاصّة أنّه قد عمل في سنوات حكمه على تشكيل صورة له كأبٍ راعٍ للأمّة الروسيّة سيأخذ على عاتقه استعادة مجدها على الساحة العالميّة. ستخسر روسيا بسقوط نظام الأسد قاعدتها العسكريّة الوحيدة خارج حدود الاتحاد السوفيتي سابقًا، وهي تلك القاعدة البحريّة التي تقع في طرطوس. فإن فشلت الجهود العسكرية الروسية، فسيتخبّط بوتين لإنقاذ ما يمكنه إنقاذه، ولعلّه يتحرّك لنقل الصراع إلى مرحلة أخرى جديدة وأكثر خطورة، إذ قد يصعّد الضربات الجويّة فوق سوريا أو قد يرسل المزيد من الجنود من القوّات الخاصّة الروسيّة كما فعل في أوكرانيا. وبازدياد الخسائر في صفوف القوات الروسيّة في سوريا سينفتح باب من الاحتمالات التي لا يمكن التكهّن بها.

ليست هذه المرة الأولى التي يتدخّل بها بوتين عسكريًّا لإنقاذ أنظمة موالية له. ففي عام 2008 تدخل الجيش الروسي في جورجيا لمعاقبة الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي وحماية استقلال المناطق الجورجية المنفصلة في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. وفي العام 2014 قدّم بوتين الدعم للمتمردين في أوكرانيا وقام بضمّ القرم بعد الإطاحة بفيكتور يانوكوفيتش حليف موسكو. وفي العام المنصرم قرّر بوتين التدخّل في سوريا في محاولة لتثبيت أركان نظام الأسد ودعم قوّاته المتهالكة.

لقد قام بوتين بالفعل بالإشارة إلى إمكانية التصعيد العسكري في سوريا مصرّحًا بأنّ روسيا لا تستخدم سوى جزء بسيط من إمكاناتها في سوريا، وأنّه ما يزال في جعبة روسيا الكثير مما قد تستخدمه فعلًا إن لزم الأمر.

ما الحل إذن؟ إن كانت خسارة الروس ستؤدي إلى مزيد من التصعيد فإن هذا لا يعني في المقابل أنّ كسبهم المعركةَ سيكون أمرًا أفضل. لو كانت كفّة الأمور ترجح لصالح الأسد وقوّاته فما الذي يدفعه للحديث عن عملية سلميّة يقرّ فيها بمصالح جميع الأطراف في سوريا؟ لعل الفرصة المثالية لاتفاق سلام ستسنح حالما يرى بوتين استحالة تحقيق نصرٍ عسكري حاسم على الأرض، فيلجأ حينها إلى حفظ ما تبقى من ماء وجهه بتحويل الهزيمة إلى نجاح من نوع ما. لعله في وسعنا أن نزعم هنا أن بوتين في حاجة إلى قصّة يخبر فيها شعبه عن المخرجات الإيجابية لحملته العسكرية في سوريا، ولا يلزم أن تكون هذه القصّة صحيحة بالضرورة، ولكن أن يكون فيها على الأقل مسحة من الحقيقة تجعل من الممكن تمريرها. ولعلّه يحسن بالولايات المتحدة أن تتجنّب التبجّح بادّعاءات حول هزيمة فادحة للروس في روسيا ليتحقق هذا. يُقال إن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب عام 1989 رفض عامدًا الحديث بعد سقوط جدار برلين عن نصرٍ للمعسكر الغربيّ كي لا يزيد من سوء الموقف الذي كان فيه رئيس الوزراء غورباتشوف حينها.

يحتاج بوتين إلى خطاب نصر، وعلى واشنطن أن تساعده في كتابته.