إعدام

إعدام

جورج أورويل

ترجمة محمد زيدان

نشرت الترجمة في العربي الجديد في 25 يونيو 2014

http://goo.gl/w6VDGW

حصل ذلك في بورما، في صباح يوم أتخمته أمطارُ الليل بالرطوبة، وتسللت أشعةُ شمسه المتلكّئة، وكأنّها ورق قصدير أصفر، وانتشرت على باحة السجن من فوق جدرانها العالية. كنّا ننتظر خارج زنازين من حُكِم عليهم بالإعدام، لكل زنزانة حاجزان من القضبان، وكأنها أقفاص حيوانات صغيرة. بلغت مساحة كل زنزانة عشرة أقدام بعشرة أقدام، تخلو من كل شيء سوى منامةٍ خشبية وزجاجة ماء للشرب. أما من يقبع فيها فرجال ذوو بشرة سمراء، يجلسون القرفصاء بحذاء القضبان الداخلية، متدثرين بأغطية حول أجسادهم. هؤلاء هم الرجال الذين قُضيَ عليهم بالموت، سينفذ حكم الإعدام في حقهم في ظرف أسبوع أو أسبوعين.

جُلِبَ أحدُ السجناء من زنزانته، وكان هنديًّا، نحيلًا ضامرًا، حليقَ الرأس، له عينان مغمورتان براقتان. وكان له شارب ثخين متشعب، يُثير العَجَبَ من ضخامته بالنسبة إلى حجم جسده، فكان أشبهَ بشنبِ المهرّج الذي نراه في الأفلام. وقف على حراسته ستة حراس هنود، قاماتهم طويلة، يقومون على تجهيزه ليتوجه إلى المشنقة. انتظر اثنان منهم خارج الزنزانة، كلٌّ يحمل بندقية لها حربة مثبتة على رأسها، أما البقية فتولوا أمر تقييده بالأصفاد، ثم شبكوا قيوده بسلسلة مع أحزمتهم، ووضعوا أيديهم على خاصرتيه. أحاطوا به، أيديهم دائمًا تتحسسه بحذر وتيقظ، ربّما رغبةً بأن يشعروا به ليتأكدوا أنه ما زال بين أيديهم، وكأنه سمكة خرجت من الماء، يمسكها الصيّاد كي لا تقفز ثانية إلى الماء.

أما الرجل فوقف هادئًا لا يقاوم، يمد يديه على هون إلى القيود، وكأنه في غفلة عما يدور من حوله.

دق جرس الثامنة وارتفع صوت البوق، وبدا الصوت بعيدًا خافتًا وهو يشق الهواء المبلول من بين ثكنات الجند البعيدة. ولما انتهى صوت البوق إلى سمع مأمور السجن الذي كان يقف منزويًا عن بقيتنا يداعب مزاجه بتحريك الحصى من تحته بعصاه، رفع رأسه وتنبه. عَملَ مأمور السجن طبيبًا في الجيش من قبل، له شارب كفرشاة الأسنان يضرب إلى اللون الرمادي، وصوته أجشّ فيه بحّة. قال بنبرة متوترة: “أسرع بالله عليك يا فرانسيس، من المفروض أن يكون الرجل في عداد الموتى الآن، ألم تجهز بعد؟”.

ذلك هو فرانسيس، كبير السجانين، رجلٌ سمين من أبناء الدرافيديين، يلبس رداءه ويضع نظارة ذهبية اللون. حرك يده السوداء، وقال: “نعم، نعم سيدي”، نطقها بسرعة وأردف يقول: “حضّرنا، حضّرنا، كلَّ شيءٍ على أتمّ وجه، ورجلُ، ورجلُ المشنقة بالانتظار. سنتقدم الآن”.

“حسنًا، تقدموا إذن. لن يحصل السجناء على طعام الإفطار إلا بعد الانتهاء من هذه المهمة”.

توجهنا نحو المشنقة. تقدم السجين مع اثنين من الحراس ذات اليمين وذات الشمال، وكانوا يحملون بنادقهم بوضعية التأهب، واثنين آخرين من خلفه يمسكون به من ذراعيه وكتفيه، فبدوا كأنهم يدفعونه ويسندونه في آن معًا. أما بقيتنا من إداريين وغير ذلك فسرنا وراءهم. وفجأة، وبعد أن مشينا عشرة أمتار فقط، توقف المسير من دون أيّ أمر ولا تحذير. شيء مخيف؛ ظهر في الساحة كلبٌ، الله وحده يعلم من أين أتى. جاء يقفز من بيننا بسلسلة نباح صاخبة، واستمر يتوثب حولنا يحرك جسده كله مع كل وثبة. كان جامحًا من فرط حيويته لِما يرى من تجمهر من الناس غفير. كان كلبًا ضخمًا له شعر يشبه الصوف، هجينٌ بين فصيلة أريدال والباريا. تبختر الكلب حولنا لوهلة، ثم وثب على السجين على حين غرّة من الحرس، وحاول الوصول إلى وجهه ليلعقه. وقف الجميع مشدوهين لما رأوه لتوّهم، وتسمّروا في أماكنهم من الدهشة ولم يأبهوا حتى للانطلاق والسيطرة على هذا الكلب.

صرخ مأمور السجن وقال: “من سمح لهذا المخلوق البغيض أن يدخل هنا؟ امسكوا به، هيا فليتحرك أحدكم!”.

انطلق أحد الحراس تاركًا بقية الحشد وركض كالأخرق وراء الكلب، ولكن الكلب أخذ يناور ويثب بخفّة وتفلّت من الحارس، وكأنّ ما يحدث جزءٌ من لعبة يلعبها. فجاء حارس آخر، آسيوي من أصول أوروبية، والتقط بعض الحصى ورماها باتجاه الكلب علّه يبتعد عن الساحة، غير أن الكلب تفادى الحجارة ولحق بنا من جديد. كان نباحه يرتد صداه على جدران السجن. أما السجين بين يدي الحراس فنظر بغير اكتراث من حوله، وكأنّ ما يجري هو من مراسم الإعدام. ومضت دقائق عدة قبل أن يتمكن أحدهم من الإمساك بذاك الكلب، فوضعنا منديلي حول طوقه، واستأنفنا المسير، وما زال الكلب يدافع ويئنّ.

تبقّى أمامنا بضعة وثلاثون مترًا حتى نصل إلى المشنقة. نظرت إلى ظهر السجين وهو يتقدم أمامي، بشرةٌ بنيٌّة لا يغطيها شيء. مشى بخطى ثقيلة بتلك الذراعين المقيدتين، بيد أنّها بدت خطىً ثابتة. كانت مشيته متّئدة، ولكنها مِشيةُ الهنديّ الذي لا يقيم ركبتيه على استوائهما أبدًا. في كل خطوة، كانت عضلاته تستوي في مكانها، وتتقلقل خصلة الشعر على فروة رأسه، وتنطبع صورة قدميه على الحصى المبتل. وفجأة، وبالرغم من وجود الحراس الذين يمسكون به من كل كتف، حاد قليلًا عن الطريق ليتجنب الوقوع في بقعة ماء صغيرة أمامه.

كل ذلك أثارَ الفضول في نفسي، غير أني لم أدرك حتى تلك اللحظة معنى أن تدمّر حياة إنسانٍ ينعم بالصحة في جسده وعقله. لما لحظت السجين يتجنب بقعة الماء تلك، انقدح العجب في ذهني، ورأيت فظاعة الخطأ في أن تُجهز على حياة إنسان وهي في أوج حيويتها. ذلك الرجل لم يكن قريباً من الموت، بل كان ينعم بالحياة كأيّ واحد منّا. أعضاؤه الحيوية جميعها سليمة، معدته تهضم طعامها، البشرة تجدد طبقتها، أظافره تنمو وأنسجته تتشكل، كل أجهزته تعمل دون كللٍ في غمرةٍ من الجهل. لعلّ أظافره لم تتوقف عن النمو لمّا اعتلى خشبة الإعدام، بل حتى لمّا سقط في الهواء في عُشر تلك الثانية التي عاش فيها. رأتْ عيناه الحصى الأصفر والجدران الرمادية، وعقلُه تذكّرَ، وارتقبَ وفكّر.. فكّرَ حتى في بُقع الماء. كنّا وإياه حشدًا من الرجال نمشي سويّة، ننظر ونسمع ونشعر وندرك، كلنا في عالم واحد، وفي غضون دقيقتين، بضربة مباغتة، سيهوي أحدنا ميتًا، فينقصُ فينا عقلٌ وعالَم.

كانت المشنقة في ساحة صغيرة منفصلة عن أرض السجن الرئيسية، تنمو فيها حشائش شائكة طويلة، وهي مبنية من الطوب على شكل بناء له جوانب ثلاثة، وضعت عليه ألواح خشبية من الأعلى، ومن فوقها عمودين يعترضهما قضيب يتدلى منه حبل المشنقة. أما المسؤول عن المشنقة، فهو أحد السجناء من ذوي الأحكام الطويلة، يعلو الشيب رأسه، ويلبس ملابس السجن البيضاء، وكان ينتظر قدومنا قرب آلته. رحّب بنا بانحناءة ذليلة لما دخلنا. تحرّك اثنان من الحرس بأمرٍ من فرانسيس، يُحكمون قبضتَهم على السجين أكثرَ من أي وقت مضى، ولا يكاد الناظر يعرف إن كانا يقودانه إلى المشنقة أم يدفعانه إليها دفعاً، ثم ساعداه مرتبكين لارتقاء الدرجات، ثم صعد الشانق وأحكم الحبل حول عنق السجين.

وقفنا ننتظر، على بعد أربعة أو خمسة أمتار تقريبًا، والتفّ الحرّاس حول المشنقة في شبه دائرة. وبعد التأكد من تثبيت أنشوطة الحبل أخذ السجين يتوسل لآلهته، وكان ينادي بصوت عالٍ متكرر: “رام! رام! رام! رام!”، بيدَ أن نبرته لم تكن نبرة إلحاح ولا خوف، فلم يكن نداء رجل يريد النجدة، بل كان صوتًا ثابتًا متناسقًا، أقرب إلى رنين الجرس. تفاعلَ الكلبُ مع الصوت فأصدر أنينًا. أما الشانق الذي ما يزال يقف على المشنقة فقد أخرج كيسًا قطنيًّا، مثل كيس الطحين، وغطى به رأس السجين. كتم الكيسُ صوت السجين لكنّه بقيَ مسموعًا، وتكرر النداء: “رام! رام! رام! رام!”.

نزل الشانق ووقف متأهبًا، يمسك العتلة بيده. مضت بضع دقائق. ولم يتوقف نداء السجين الثابت المكتوم: “رام! رام! رام!”، لا يتلعثم ولو للحظة. رأيت مأمور السجن وهو يضع رأسه على صدره ويقلب الحصى بعصاه، ولعله كان يَعُدّ صيحات السجين، كي يحدد متى يجب أن يصمت، بعد خمسين صيحة ربما، أو مئة. امتقعت وجوه الحاضرين جميعهم، فبدت وجوه الهنود رمداء كقهوة رديئة، ورأيت حربة أو حربتين تتحركان. توجهت أعيننا نحو هذا الرجل المقيّد صاحب الرأس المغطى، يقف على حافة المشنقة، واستمعنا إلى صيحاته، كل صيحة تعني ثانيةً أخرى من الحياة، ودارت في رؤوسنا فكرة واحدة؛ هيا أسرعوا في قتله، فلننتهِ من هذا، أوقفوا هذا الإزعاج البغيض!

وفجأة عزم مأمور السجن أمره، فرفع رأسه وأشار بعصاه بحركة خاطفة، ونادى بصوت بدا عنيفاً: “شالو!”.

سمعنا قعقعة ثم أطبق الصمت على المكان. اختفى السجين، ولم نرَ سوى الحبل وهو يلتف بحركة حول محوره. أطلقتُ الكلب، فاتجه مباشرة صوب الجهة الخلفية من المشنقة، ولكنه لما وصل هناك توقف ونبح، ثم تراجع إلى إحدى الزوايا في الساحة، بين الحشائش، ينظر إلينا بوجل. توجهنا إلى المشنقة لنفحص جثة السجين، فوجدناها متدلية ولاحظنا أصابع قدميه نحو الأسفل، والجثة تتحرك مع الحبل ببطء في حركة دائرية، كالحجر لا حياة فيها.

وصل مأمور السجن، ووكز الجثة بعصاه، فتحركت شيئًا ما، ثم قال: “إنه على ما يرام”. انسحب مأمور السجن وأطلق نفسًا عميقًا، واختفت فجأة تلك النظرة القلقة التي كانت تعتلي وجهه، وعاين ساعة يده وقال: “الثامنة وثمان دقائق. ممتاز، هذا كل ما لدينا هذا الصباح. الحمد لك يا رب”.

نزع الحراس حِرابَ بنادقهم وقفلوا راجعين. أما الكلب، فقد آب إلى رشده وكأنه أدرك أنه أساء التصرف، وانصرف بعد الجند. خرجنا نحن كذلك من ساحة المشنقة ومررنا من أمام عنابر المحكوم عليهم بالموت، حتى وصلنا إلى الساحة الأساسية الكبيرة للسجن. كان السجناء في تلك اللحظة يستلمون طعام الإفطار على عينٍ من الحراس المتسلحين بالعصي الخشبية. جلس السجناء القرفصاء في صفوف طويلة، كلٌّ يمسك بيده وعاءً من الصفيح، بينما كان يمشي بينهم اثنان من الحراس بدلوٍ يسكبون منه الأرز. بدا هذا المنظر بسيطًا جذلًا، بعد مشهد الإعدام ذاك. غمرَنا شعورٌ عظيم بالارتياح إذ أننا أنهينا تلك المهمة، حتى شعر الواحد منّا برغبة في الغناء أو أن ينطلق راكضًا أو أن يطحطح  في الضحك. ثم بدأ الجميع يتحدثون فيما بينهم بسرور.

مر من جانبي ذلك الصبيّ الأوراسيّ وأومأ نحو المكان الذي أتينا منه، تعلو وجهَه ابتسامةٌ تنمّ عن معرفة بخفايا الأمور، وطفق يقول: “أتعلم يا سيدي أن صاحبنا (ويقصد الرجل المشنوق) لمّا علم أنَّ استئنافه على الحكم رُفِضَ راح وبالَ على أرضية زنزانته، من شدة الخوف.- تفضّل وخذ واحدة من سجائري يا سيدي، ألا تعجبك العلبة الفضية الجديدة سيدي؟ اشتريتها من أحد الباعة بروبيتين وثماني آنات، وطرازها أروبي رفيع”.

انطلقت ضحكات من هنا وهناك، ولا أحد يدري علام الضحك.

كان فرانسيس يمشي إلى جانب مأمور السجن يثرثر ويقول: “حسنًا سيدي، إنّ الأمور تمّت بالمستوى الأعظم، بالمستوى الأعظمِ من الإتقان. لقد فرغنا من مهمتنا بنجاح بملح البصر. مع أن الأمور لا تجري بهذا اليسر دائماً، آآه، كلا! لقد خبرتُ حالاتٍ كان يُضطر فيها الطبيب أن ينزل من تحت المشنقة ويسحب قدم السجين ليتأكد من وفاته. لم أعرف شيئًا أفظع من ذلك!”.

رد مأمور السجن وقال: “كان يتلوّى، أليس كذلك؟ ما أسوأ ذلك”.

“آهٍ يا سيدي، يزداد الأمر سوءًا حين يعاند السجين! أذكر أن أحدهم مرةً تشبّث بقضبان الزنزانة لما أردنا أن نخرجه منها، ولعلك لن تصدقني لو قلت لك إننا لم نتمكن من إخراجه إلا بمساعدة ستة من الحراس، كل ثلاثة يسحب من ساق. حاولنا الحديث معه وإقناعه: “يا عزيزي، ألا تقدر المعاناة التي أصابتنا بسببك الآن!” غير أنه لم يسمع كلامنا! آه، لقد أتعبنا كل التعب!”.

رأيتني وقد ارتفع صوتي بالضحك، الكل كان يضحك، حتى مأمور السجن رمقنا بنظرة لمسنا فيها الرضا، وتوجه إلينا بلطف وقال: “أرى أنه يلزمكم أن تخرجوا لنتناول الشراب سوية. في سيارتي زجاجة من الويسكي، قد تكفينا جميعنا”.

خرجنا عبر بوابة السجن الكبيرة ذات الدفتين. وفجأة قال المسؤول البورميّ بتهكم: “هكذا إذن؟ تسحبونه من ساقه!”، وانفجر يقهقه، وعدنا نحن كذلك إلى ضحكنا. بدت قصة فرانسيس في تلك اللحظة مضحكة للغاية. شربنا كأسًا مع بعضنا، الهنود والأوروبيون معًا، في جو لطيف. كان الرجل المشنوق يبعد عنا مئة متر فقط.