"The Black Stain," Albert Bettanier (1887).

النوع الخاطئ من العلمانية
إيان بيرشال/ ترجمة محمد زيدان
http://goo.gl/09uiZ8

لقد ترددت على مسامعنا بعد وقوع الهجوم على صحيفة شارلي ايبدو الكثير من العبارات التي تتحدث عن “قيم الجمهورية”، وحقيقة الأمر أنّ بعض الفرنسيين يشيرون إلى أنّهم قد سمعوا عبارات من هذا القبيل أكثر من اللازم، وذلك وفق استطلاع للرأي أُجري مؤخرًا يشير إلى أنّ 65 بالمئة من الفرنسيين يعتقدون أنّ عبارة “قيم الجمهورية” قد “باتت تستخدم بشكل مبالغ به وأنّها فقدت ثقلها ومعناها.”
ولعل اللائكيّة الفرنسية تحتلّ أهمّ مكانة بين هذه القيم، واللائكيّة كلمة لها العديد من الدلالات والتفسيرات التي تجعل ترجمة الكلمة إلى لغة أخرى شبه مستحيل، مع أنّ كلمة العَلمانيّة قد تكون مقاربة معقولة لها. واللائكية اليوم صارت تعدّ مسوّغًا للكثير من الأشياء، لعلّ من بينها منعَ الأمّهات المحجّبات من مرافقة أولادهنّ في الرحلات المدرسيّة، وتوجيه الأطفال المسلمين واليهود في المدارس الفرنسية إلى أكل لحم الخنزير أو أن يواجهوا الجوع إن رفضوا ذلك.
ولكنّ اللائكية ليست مجرد فكرة استولى عليها اليمين لغايات سياسية أو ثقافية، إنّها كذلك قيمة حتّى اليسار ينسبها لنفسه، بل حتّى بعض الأطياف من أقصى اليسار. ثمّ إنّها ليست مجرّد “قيمة” تسكن عقول الكثيرين، بل إنّ لها تجسدًا مادّيًا ملموسًا في نظام التعليم الفرنسيّ. فحوالي ربع السكان اليوم في فرنسا (24،7 بالمئة) يدخلون في نظام التعليم الرسمي، معلمين وطلابًا، وهذا ما يجعل مُثل اللائكية والممارسات المتعلقة بها مرتبطة بشكل وثيق بالبنى الاجتماعية والاقتصادية للأمّة الفرنسية.
إنّ للائكية تاريخًا طويلًا وشائكًا، ولكنّ نقطة التحوّل المفصليّة كانت بلا شكّ في اعتماد قوانين فيري عام 1881 و 1882، وهي القوانين التي أرست المبدأ الذي يجعل التعليم الأساسي في فرنسا مجانيًا وإلزاميًا وعلمانيًا.
كان التوسّع في التعليم الأساسيّ العامّ يجري على قدم وساق في مناطق أخرى من أوروبا، فالتطورات التي رافقت النهضة الصناعيّة قد زادت من الحاجة للقوى العاملة المتعلمة والماهرة في فرنسا، خاصة بعد انتصار بروسيا الحاسم في حرب عام 1870، وهو انتصار عزاه الكثيرون في ذلك الوقت، في جزء منه على الأقل، إلى تفوّق بروسيا في مجال التعليم.
غير أنّ هنالك عوامل أخرى. فالسياسيون الذين كانوا يحكمون الجمهورية الثالثة قد كانوا يمارسون السياسة في البداية وهم أعضاء في المعارضة أثناء حكم الإمبراطورية الثانية. فالكنيسة الكاثوليكية قد أدت دورًا بالغ الأهمية في حكم نابليون الثالث ودعمه. وكانت هنالك حامية فرنسية لحماية الفاتيكان، ولم يخسر الفاتيكان موقعه كدولة مستقلة إلا بعد انسحابه من الحرب الفرنسية البروسيّة فألحق بإيطاليا وصار جزءًا منها.
وهكذا صار السياسيون الجمهوريون يناهضون الكنيسة بعد أن فقدوا الثقة بها، وقد انسجم هذا مع المزاج العام للفرنسيين في ذلك الحين.
لقد كانت هنالك أسباب واضحة لغياب الثقة. فقد كان ولاء رجال الكنيسة منقسمًا بين الدولة الفرنسية وسلطة البابا التي كانت لها سياسة خارجية مباينة لفرنسا. كما ساد تخوّف حينها من أن يعمد المعلمون الكاثوليكيون إلى الاصطفاف إلى جانب روما لا باريس، ومن ذلك ما يروى أثناء الحرب بين فرنسا والنمسا عام 1859 أنّ قسًّا في إحدى القرى الفرنسيّة وعظ الحاضرين في كنيسته ودعاهم للصلاة من أجل النمساويين لأنّهم كاثوليك.
ولهذا اعتقد فيري ومن معه أنّ مهمّة خطيرة مثل تعليم الأجيال الجديدة جديرة بأن لا تترك بحلفاء في الكنيسة لا يمكن الاعتماد عليهم، وأنّ التعليم الأساسيّ لا بدّ أن يُقدّمه معلّمون توظفهم الدولة مباشرة.
كما كانت قضية تعزيز القوميّة أمرًا ذا أهمية كبيرة. فقد لاقت فرنسا هزيمة نكراء في حربها مع بروسيا، وخسرت أراضي لها في الألزاس واللورين لصالح الإمبراطورية الألمانيّة، ونما شعور قويّ في بعض الأجزاء في فرنسا بضرورة العمل على استعادة تلك الأراضي.
لم يكن فيري يحبّذ خوض حرب مع ألمانيا، بل إنّه سعى لتحسين العلاقات معها، غير أنّ مساعي المناورة تلك قد تعارضت مع حالة من الرأي العامّ الفرنسي، وحقيقة أنّ الاحتمال قائم وكبير لاندلاع حرب أخرى مع ألمانيا. لقد كان الخيار الذي اتّجه إليه فيري هو مدّ نفوذ الإمبراطورية الفرنسية، وهو طموح يتماشى مع رؤيته العنصرية التي ترى أنّ “الأعراق المتفوقة تضطلع بواجب جلبِ الحضارة للأعراق الأدنى.” وهذا ما حصل بالفعل أثناء حكم فيري حيث احتلت فرنسا الهند الصينية وصارت جزءًا من إمبراطوريتها.
هذه التطلعات الاستعمارية هي التي جعلت الجيش يكون في صلب القضيّة، لقد كانت فرنسا في ذلك الحين دولة تعتمد على الزراعة إلى حدّ كبير، ففي العام 1900 كان العاملون في مجال الزراعة في فرنسا يشكلون 45 بالمئة من الأيدي العاملة. وفي العام 1848 و 1871 كان الجنود الفلاحون هم من أعادوا فرض “النظام” وقمعوا انتفاضة العمال في باريس، وسوف يزداد الاعتماد على الجيش في العقود التي تلت ذلك لمواجهة الإضرابات العمالية.
ولكن كانت هنالك مشكلة فيما يتعلق بالفلاحين، إذ كان شعورهم القومي ضعيفًا إلى حد كبير، ذلك أنّهم كانوا يشعرون بالانتماء إلى القرية أو المنطقة التي يعملون فيها أكثر من شعورهم بالانتماء إلى الأمّة الفرنسيّة. كما أنّ الفلاحين كانوا يتكلمون لغات أو لهجات (patois) غير الفرنسية، إذ تشير إحصاءات تعود إلى العام 1863 أن ربع السكان لم يكونوا يتكلمون الفرنسية، بل إن بعض التقارير تشير إلى أنّ بعض الفلاحين في بعض المناطق كانوا لا يعرفون أصلًا بوجود لغة تسمّى اللغة الفرنسيّة.
وعليه فإنّ مشروع فيري التعليمي قد أولى اهتمامًا أساسيًا لموضوع تعزيز الهويّة القوميّة الفرنسية عبر التخلص من التعليم الدينيّ واعتماد تعليم “مدنيّ” يعزّز الأخلاق ويغرز قيم الوطنيّة والهويّة القوميّة. وقد كان منهاج التعليم الأساسي يشتمل على تدريب عسكري للطلاب الذكور وأعمال الحياكة للإناث.
وقد أوليت أهمّية كبيرة للتمرينات العسكرية في هذه المدارس الجديدة، وفي هذا يقول أحد المؤرخين:
لقد كانت تلك فترة “كتائب المدارس”، وقد كانت هذه اختراعًا جمهوريًا أطلق عام 1882 على يد بول بيرت (Paul Bert). لقد كان هذا المشروع يسعى إلى الاستفادة من دخول الطلبة في المدارس الأساسيّة من أجل زرع قيم “المواطنة والوطنيّة” فيهم من خلال التدريبات العسكرية. لقد كان الأولاد يذهبون إلى المسير العسكريّ حاملين أسلحة غير حقيقيّة ذات حراب خشبية، كما كانوا يتدربون باستخدام الذخيرة الحيّة خارج المدارس في مساحات التدريب الخاصة بالجيش.
وصف فرانسوا فوريه (François Furet) في مقدمته لمحاضرة ألقاها عام 1985 عن قوانين فيري أنّ تأسيس اللائكيّة في التعليم قد كان “الرمز الأفضل للانتصار العظيم والوحيد لليسار منذ الثورة الفرنسيّة.” هذا مع أن اليسار لم يكن في مثل حماسة فيري عندما أقرّت قوانينه ولائكيّته في تلك الفترة في فرنسا.
رأى أحد أطياف الحزب الاشتراكي الفرنسي بزعامة جين جوريس (Jean Jaurès) في قوانين فيري والفصل بين الكنيسة والدولة خطوة مهمّة للأمام. لقد كان جوريس متفهمًا لفيري وميّالًا لفكرة اللائكية كجزء من تصوره العام عما يجب عليه أن تكون السياسة في الجمهورية، وهذا ما جعله يدافع عام 1904 عن دخول الاشتراكيين في الحكومة الجمهورية، بل وذهب إلى أنّ هذا ما أنقذ الجمهورية، واكتفى بالإشارة من بعيد إلى ما قامت به الحكومة من إرسال للجنود للتصدّي للعمال المضربين.
أما لليسار الماركسي فقد كانت الأمور مختلفة نوعًا ما. ففي صيف عام 1882 وبعد فترة وجيزة من إقرار قانون فيري الخاص باللائكية كان كارل ماركس بنفسه متواجدًا في باريس لقرابة ثلاثة أشهر وذلك قبل عودته إلى بلاده بعد إقامته في الجزائر. ولم يرد في مراسلاته وكتاباته في تلك الفترة أيُّ ذكر لما قام به فيري، وهذا أمر غريب خاصّة حين نجد أنّ شخصًا مثل فوريه يرى أنّ اللائكيّة أعظم انتصار من انتصارات اليسار.
أمّا بول لافارج (Paul Lafargue)، زوج بنت ماركس، وأهمّ كتاب الماركسيّة الفرنسيّة ومفكريها لثلاثة عقود بعد أن أقام في باريس عام 1882، فلم يأتِ قطّ على ذكر قوانين فيري في مراسلاته العديدة مع إنغلز. ولعل هذا يعود إلى وضاعة شأن فيري عند كلّ من ماركس وإنغلز، فقد شجب ماركس مرّة “سوء إدارة” فيري للبلاد في الفترة التي سبقت كميونة باريس، أمّا إنغلز فقد وصفه بأنّه “لصّ المياه الأولى.”
أمّا كارل كوتسكي، الذي صار يدعوه البعض “بابا الماركسيّة” بعد وفاة إنغلز، فقد كانت له وجهة نظر مختلفة. فبالرغم من موقفه النقدي بشكل عام من الجمهورية الثالثة، والأوهام التي تمثلها عند العديد من أتباع الحركة الاشتراكية الفرنسيّة، إلا أنّه قد أشار بلا تحفّظ إلى أنّ الجمهورية الثالثة “قد فعلت أشياء عظيمة في مجال التعليم.”
بيد أنّه كان متشككًا في قضية فصل الكنيسة عن الدولة، مشيرًا إلى أنّه “إن كان ثمة فصل بين الكنيسة والدولة، فإنّ هذا قد يكون مما كان من استفزاز من قبل لكنيسة، وما يزال هنالك شكّ حول استمرارية هذا الفصل.”
وفي إشارة لاحقة يقول كوتسكي:
يبدي السياسيون الليبراليون البرجوازيون اليوم بالغ الاهتمام في النضال ضد الكنيسة، ولكن دون أن يعني ذلك تحقيق النصر عليها. إنّما يمكنهم الاعتماد على التحالف مع البروليتاريا ما دام هذا النضال مستمرًا، أمّا إن انتهى، فإن تحالفهم هذا سيتحول إلى نوع من عداوة في اليوم الأول الذي تسقط فيه الكنيسة. إنّ البرجوازيين لن يكونوا قادرين، حتّى في أوج لحظتهم الثوريّة، أن يستمروا طويلًا من دون الكنيسة.
أي إنّه رأى في اللائكية تنازلًا لليسار وليس إستراتيجية أيديولوجية بديلة.
نجد عند لافارج إدراكًا أعمق للمسألة. لقد كان لافارج ملحدًا ماديًّا، وكان معارضًا قويًا لنفوذ الكنيسة، وكان أوّل ما انطلق لتحقيقه عند انتخابه في البرلمان هو تحريك قرار يدعو للفصل بين الكنيسة والدولة، مع أنّه لم ينجح حينها.
ولكنّه في الوقت ذاته اتخذ موقفًا متشككًا من أولئك الذين أولوا أهمية كبيرة لمناهضة النظام الكنسي. ففي برنامج حزب العمّال عام 1883 والذي كتبه لافارج وجول جيد (Jules Guesde) نجد إشارة ازدراء إلى المفكرين البرجوازيين الذين يسعون إلى “قطع معونات الدولة للكنائس وفصل الكنيسة عن الدولة”، وتنويهًا بالوقت ذاته إلى وجود مثل هذا الفصل في الولايات المتحدة (وأنّ الأديان هناك “تجارة خاصّة تشبه دكّان خضرجيّ أو دكان قصاب يبيع لحم الخنزير”) إلا أنّ هذا الفصل “لا يحول دون وقف الجذام الدينيّ الذي ينهش في جسد الجمهورية الأمريكية العظمى أكثر من أيّ شيء سواه.”
وفي عام 1886 نشر لافارج نصًا ساخرًا بعنوان “دين رأس المال” حيث يتخيّل مؤتمرًا يُعقد في لندن بحضور ممثلين لرأسمالية أوروبا في مجالي السياسة والاقتصاد، مثل جورج كليمنسو، ورثتشايلد، وجلادستون، وهيربرت سبنسر، وفون مولتكه، وغيرهم، كما كان فيري وبول بيرت من بين الحاضرين، وهذا الأخير كان من أهمّ حلفاء فيري في تأسيس اللائكية إذ كان وزيرًا للتعليم في حكومته. وقد جمع هذه الشخصيات في ذلك المؤتمر حرصها على إحياء الرأسمالية، ورأوا أنّه لا بدّ من دينٍ ما من أجل تحقيق هذه الغاية.
يعلن بيرت في نصّ لافارج الساخر أنّه، ورغم كونه غير مؤمن على المستوى الشخصي، يفضّل وجود الدين بين الطبقة العاملة. “على العمال أن يؤمنوا أنّ الفقر هو الذهب الذي يشتري لهم الجنّة… إنني رجل متدين جدًا… لأشخاص آخرين.”
المشكلة هي أنّ المسيحية لم تعد حينها تتمتع بالمصداقية فاتفق المؤتمرون على ضرورة خلق ديانة جديدة قائمة على عبادة رأس المال وتعاليم تفرض واجب العمل على العمّال. وهنا نجد لافارج يعلق ساخرًا على دور اللائكية، وهي العقيدة التي من شأنها أن تؤدي الدور الذي لم تعد تعاليم المسيحية قادرة على أدائه.
يذهب البعض أحيانًا إلى أنّ اللائكيّة تمثّل استمرارًا للأفكار التقليدية لكميونة باريس، ومع أنّه يصحّ القول بأنّ الكميونة قد تمكنت من عزل الدين في مجال التعليم، ولكنّ ثوار كميونة باريس، كما يؤكّد موريس دومنجيه (Maurice Dommanget)، لم يردّدوا شعار اللائكية لأنّهم كانوا يعدّون أنفسهم مادّيين لا محايدين بشأن المسألة الدينية.
الأهمّ من ذلك حسب ما يظهر في دراسة حديثة متميّزة من إعداد كريستين روس (Kristin Ross) أنّ الكميونة لم تزعم أنّها تمثل الدّولة وإنّما كانت ترى في نفسها كيانًا محليًا مستقلًا في إطار دوليّ، كما أنّها لم تنظر إلى التعليم بوصفه تحضيرًا للخدمة العسكريّة. لقد كانت الكميونة تمثّل تقليدًا دوليًّا مختلفًا عن ذلك الذي دعا إليه أنصار اللائكيّة.
لعل أشدّ أشكال النقد للائكيّة قد أتت من التيارات الأناركيّة والنقابيّة، فالأناركيّة باختصار لا تريد “لا الكنيسة ولا الدولة.” فالمدرسة المسيحية كما يرى سبياستيان فور (Sébastien Faure) “تنظمها الكنيسة من أجل الكنيسة” أمّا المدرسة اللائكية “فتنظمها الدولة من أجل الدولة.” ويعارض سبياستيان فكرة “مدرسة المستقبل… المهيئة من أجل الطفل.” بينما نجد أندري لوريلو (Andre Lorulot) لا يتوانى عن وصف معلمي المدرسة بأنّهم “لصوص الفكر المنتمين إلى طبقة الرأسمالية.”
وقد كانت هنالك العديد من المحاولات التي قام بها أناركيون لإنشاء مدارس ليبرتانية مستقلة عن الكنيسة وعن الدولة على السواء، وهي محاولات قد تلقت دعمًا ماليًا في بداية الأمر من إميل زولا وغيره من الكتاب، ولكن لم ينتج عنها شيء بسبب ضعف الموارد.
اشترك الأناركيون مع ماركس وإنغلز في نظرتهم المنتقدة لفيري، ولا شكّ في أنّهم لم يروا فيه بطلًا لليسار. وهذا ما نجده في مجلة إيميل بوجيه (Émile Pouget) والتي كانت تعبّر عن آراء راديكالية بلغة مباشرة وشعبية بل وسوقيّة في كثير من الأحيان.
لقد اتخذ بوجيه من فيري موقفًا عدوانيًا على الأقلّ، إذ يقول فيه: “لو كان ثمّة خنزير يثير قرفي لكان فيري. أيُّ بهيمة قذرة هذا الحيوان، إنّه أكبر وغد في فرنسا… إني أرجو أن يكسر أحد عنقه، لا شكّ أنّ قتله لن يثير من الندم أكثر مما يثير سحق حشرة.”
لقد كان لبوجيه موقف مثير للاهتمام فيما يتعلق بالجدل الذي كان يدور حول عمل رجال الدين في المدارس، إذ كان لا يفضّل أن يحظر ذلك بشكل تامّ، ولكنّه رأى أنّه يلزم من أجل حماية الطلاب وشرفهم أن يتمّ إخصاء المعلمين القساوسة.
وقد تردّدت أصداء معارضة اللائكيّة في العديد من الكتابات الأناركيّة في فرنسا في ذلك الحين.
ففي كتيّب لا يعرف اسم مؤلفه، ولكنّه ينسب كما يظهر إلى إيميل جانفيو (Émile Janvion)، أحد مؤسسي اتحاد التجارة الفرنسي، والذي ينسب إليه كذلك إنشاء أول مدرسة “ليبرتانية” في فرنسا، يرد ذكر باكونين وستيرنر في معرض الموافقة على أنّ اللائكيّة إنّما تمثّل عقيدة بديلة عن الكنيسة.
كما أنّه يشير إلى ما قاله ليون جامبيتا، وهو أحد السياسيين الجمهوريين، عن أنّ “نظام الكنيسة هو العدوّ”، ويردّ على ذلك قائلًا إنّ “الأديان (التابعة للدولة أو الكنيسة) هي العدوّ.” ويضيف قائلًا: “إنّ أعداء الإكليروس لهم روح تشبه أرواح القساوسة، أمّا ملحدونا فهم الأتقياء.”
ويشير جانفيو بشكل خاصّ إلى الطريقة التي شجّعت بها المدارس العلمانيّة المشاعر القوميّة، حيث يغرس في الطفل “كراهية عمياء مخبولة لأناس يقطنون وراء هذا النهر وذاك النهر، وهوس بعرقه واحتقار لكل ما عداه.”
كما ذكر كيف يقوم معلمو المدرسة العلمانيين بكتابة بعض العبارات على السبّورة ويطلبون من الطلاب تردادها خلال اليوم الدراسي، مثل عبارة “على الفرنسيّ أن يعرف كيف يموت في سبيل علم بلاده” وعبارة “أنت لست موجودًا إلا من أجل وطنك، ولا تعيش إلا في سبيله” وقولهم “على الفرنسيّ الصغير الصالح أن يكون مستعدًا ليصبح جنديًا جيّدًا.”
كما أشار جانفيو إلى “التعليم الأخلاقي والمدنيّ” الذي يبيّن كيف أنّ “الخدمة العسكرية تدريب على الحرب. إنّه من الضروريّ تشكيل جيش صلب قادر على حمايتنا من المجرمين في الداخل والأعداء في الخارج.” وفي قوله “المجرمين من الداخل” إشارة واضحة لدور الجيش قبل العام 1914 في فضّ الاعتصامات وإنهاء الإضرابات.
كتب أنتونين فرانك كتيبًا بعنوان الربّ العلمانيّ الطيّب يتناول فيه الكتب المدرسية المستخدمة في المدارس العلمانيّة. ففي أحد الكتب المشهورة يوجّه شارلز دوبوي (Chalres Dupuy) وزير التعليم الأسبق الذي أعدّ الكتاب بنفسه سؤالًا للطلاب يقول: “كيف لنا أن نثبت حبنا لوطننا؟ لنا أن نثبت ذلك عبر الالتزام بالقوانين، حتّى لو كانت تسبب الضيق لنا، وعبر الدفاع عن أرض الوطن واستقلاله ضد الأجنبي ولو كان دفعنا الثمن من دمائنا.”
كما كانت الكتب المدرسيّة توجّه الطلاب وتلقّنهم كيفية التفكير بفرنسا: “إنني أحبّها كما أحبّ أبي وأمّي، وكي أثبت محبّتي هذه فإنّ عليّ الآن أن أكون مهذّبًا في سلوكي ومجتهدًا في عملي حتى أصبح مواطنًا صالحًا وجنديًا جيّدًا.”
كما اشتملت مثل هذه الكتب على هجوم على مبادئ العالميّة:
لعلك ستسمع من حولك بعض الناس العطلة والأنانيين الذين يدّعون أن لا طائل من أن يكون الإنسان مواطنًا في دولة ما، وأنّ على الشخص أن يكون مواطن العالم في ما يدعى الكوزموبوليتانية، وأنّ وطن الإنسان هو المكان الذي يجد فيه راحته، وأنّ الوطن ليس إلا تجريدًا يجدر بأصحاب العقول الإيجابية والعملية أن لا ينخدعوا بها.
وحتّى الكتب التي خصّصت لتعليم الأخلاق لم تعلم شيئًا إلا على هذه الشاكلة:
أعرف أنّ الإنسان قادر على محبة وطنه من دون أن يكره الشعوب الأخرى ويتمنّى لها الخراب أو يلحقه بهم، ولكن على الجنود أحيانًا وحين يلزم الأمر أن يكونوا قادرين على الكراهية، وأن يكرهوا العدو الحسود المتوحّش، الذي وفوق استخدامه للقوّة في غير محلها حرمنا من إخوتنا في الألزاس واللورين، وهو ما يزال متربّصًا بنا ليقضي علينا حين تحين له الفرصة.
وما دامت الكراهية جاثمة في صدور من احتلوا أرضنا، فإنّ من احتلّت أرضه لا يمكنه أن يسامح ولا يمكنه أن ينسى.
وهكذا فإن الكراهية تقابل الظلم، ذلك الظلم الذي ما يزال يحيق بنا. نعم، إنّه من أجل الانتقام من الظلم ودفع آثاره لا بد من الاعتماد على قوّة الكراهية، فالكراهية قويّة أيها الفرنسيّون، الكراهية واجب أيها الفرنسيون!

وفي كتاب مدرسيّ أعدّه إميلي لافيس (Émile Lavisse) بعنوان على طريق الجنديّة ينصح المؤلف القراء الشباب في التفكير بأن يكونوا جواسيس لبلادهم في المستقبل. ومع أنّه لا يقترح عليهم أن يعيشوا على طراز حياة شبيه بذلك الذي نجده عند جيمس بوند مثلًا، إلا أنّه يخبرهم بأنّ الغاية تسوّغ الوسيلة وأنّ الكذب والتموية أمران لا بأس فيهما:
إنّ الجاسوس الذي يخدم وطنه وقت السلم هو رجل بالغ الدهاء والشجاعة والجرأة، إذ يذهب إلى بلاد أجنبية فيدرس دفاعاتها العسكرية واستعدادتها الحربية ويقدّم هذه المعلومات في خدمة وطنه.
كل الوسائل مشروعة لتحقيق غايته، فله أن لا يفصح عن جنسيته وأن يتخذ اسمًا مزورًا ويتكلم لغة الدولة التي يعيش فيها ولا يفصح عن المهمّة التي هو فيها من خلال العمل في أكثر من مهنة.

ومع أنّ الأناركيين الذين انتقدوا اللائكية هم أنفسهم ليسوا بمنأى عن الانتقاد أيضًا، إذ كان بوجيه وجانفيو مثلًا معادين للساميّة، إلا أنّ الملاحظات التي قدموها تساعد على وضع اللائكية في سياقها كما توضّح أنّها لم تكن فكرة تقدّمية كما يدّعى عادة.
ورغم بعض الأصوات التي اتخذت موقفًا معارضًا للائكية، إلا أنّها حققت وإلى حد كبير تلك الأهداف التي كانت تروم تحقيقها، إذ عززت الهوية القوميّة المرتكزة على القوة العسكرية. يحدثنا المؤرخ يوجين فيبر يقول: “في شهر آب من عام 1914 لم يكن مستغربًا أن نسمع فلاحًا شابًا من إقليم فار (Var) أقصى الجنوب الشرقيّ يذهب إلى جبهات القتال “سعيدًا (كما جاء في رسالة كتبها إلى والديه) لأنني ذاهب للدفاع عن وطني، فرنسا.””
الاستثناء الصغير حصل عام 1912 حين صوّت معلّمو مدارس المرحلة الابتدائية لدعم صندوق لدعم التعليم بعيدًا عن عسكرته يدعى (sou du soldat). وقد أثار هذا التحرّك الكثير من الإرباك حينها، إذ صرّح أدولف ميسيمي بكل صراحة أنّه مع كونه داعمًا للائكيّة فإنّ ما قام بها المعلمون لا يمكن القبول به. وقد بدا لوهلة أنّ موظفي الدولة كادوا ينقلبون على هذا المبدأ، ولكنّ الحقيقة هي أنّ خمسة بالمئة وحسب من المعلمين في تلك السنة كانوا أعضاء في النقابة، ولم يترتب على معارضة هؤلاء أي أثر يذكر.
تواصلت تقاليد انتقاد اللائكية بعد الحرب العالمية الأولى. وقد جاء في صحيفة كلارتي، القريبة من الحزب الاشتراكي ولكنّها ليست تابعة له تمامًا، بعض التقارير عن التطورات في مجال التعليم في روسيا بعد الثورة والتي قد تقدّم بديلًا عن تعليم الكنيسة أو تعليم الدولة. كما عقد مؤتمر تعليمي في موسكو عام 1919 على سبيل المثال جاء فيه رفضٌ للحياد الأكاديميّ واللائكية لأنه لا طائل من ورائهما إلا خدمة مصالح البرجوازيّة.
كما كان للحزب الاشتراكيّ الفرنسيّ موقفًا من اللائكية مختلفًا عما آل إليه حال اليسار اليوم. لقد كان حاج علي عبد القادر، الذي تزوّج من امرأة فرنسيّة وحصل على الجنسيّة الفرنسيّة، من الأعضاء المؤسسين للحزب الاشتراكيّ، وكان من الكتاب الأساسيين في صحيفة لاباريا (وهي الصحيفة الاشتراكية الخاصة بالمهاجرين والعمّال في المستعمرات الفرنسية) وكاد أن يرشّح للبرلمان عام 1924. لقد كان عبد القادر مسلمًا في حياته، وكان يرى أنّ على الاشتراكيين أن يتخذوا موقفًا غير معادٍ للإسلام.
أمّا اليوم، ومع استمرار استخدام اللائكية في خدمة الإسلاموفوبيا، فإنّه من المهمّ نزع تلك الهالة القدسية التي تحيط بها، وهذا يتطلب فهمًا للائكية لا بوصفها مثالًا نبيلًا تعرض لسوء الفهم والتشويه، بل بوصفها مفهومًا يشوبه الخطأ من أصله.